الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإذا كان المعنى الذي تأخذ به في هذا الموضع غير ذلك المعنى، لم يدخل أحد المعنيين على الآخر، وكان لكل واحد منهما معنى حكم على جهته.نعم بنت الإبن لا تستحق الباقي بعد بنتي الصلب، لأن الجهة واحدة في البنت وبنت الابن، وأما الجهة فمختلفة ها هنا.وليس يمكن إسقاط أولاد الإبن، مع مشابهتهم لأولاد الصلب في تعصيب الأخت وغيره، وإعطاء الأبعد، وليس يمكن الترتيب في الفرض، فدعت الضرورة الى تعصيبهن، هذا تمام ما يقال في هذا الباب.فإن قال قائل: فهلا قلتم لابنة الابن ما يبقى بعد بنتي الصلب؟ وإن بنت الابن في ذلك أولى من ابن ابن العم البعيد، فإنها تدلي ببنوة الميت، وابن العم يدلي ببنوة جد الميت، وشتان ما بينهما، فإن قلتم: لا شيء لها، علم أن ذا الفرض لا يصير عصبة، مخافة صرف المال إلى من هو أبعد منه في القرابة، فكذلك الإلزام في الأخت من الأب مع الأختين للأب والأم، فإنه لا يصرف إليها الباقي بعد الثلثين بحكم العصوبة، تقديما لقرابتها على قرابة ابن ابن العم، وهذا سؤال حسن.والجواب عنه: أن السبب في ذلك أن اللّه تعالى شرع فرض البنات جملة واحدة، سواء كن بنات صلبه أو بنات ابنه، فجعل غاية حقهن الثلثين، وجعل غاية حق الأخوات سواء كن لأم وأب أو لأب الثلثين، ودل عليه مطلق قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ} إلى قوله: {فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ} الآية، فوقعت الفريضة لهم جملة، لأنهم جميعا ولد الميت أو ولد أبى الميت، فإذا كان ذلك كمال حقهم من التركة، يقع الكلام منهم بعضهم مع بعض في البداية ببعضهم على بعض، فإذا استوفى الأخوات للأب وللأم حصصهم، كان الباقي للعصبة لأنهم يقولون لأولاد الأب: سواء علينا كنتم لأب وأم، أم كنتم لأب وقد استوفى فرض الأخوات، فليس لكن بعده شي ء؟ وإن كان هناك أخ لأب سقط كلام العصبة، لأن الإخوة يقولون: أنتم لا حق لكم مع أخ لاب بوجه، فإنه ذكر عصبة لا يأخذ ما يأخذه بفرض الإناث.السؤال: على هذا من أوجه:أحدها: أنه إن صار نصيب الأخوات من الأب مستوفى في فريضة الأخوات للأب والأم وليس يبقى بعد ذلك لهن حق في الميراث، فلم تأخذ الأخت للأب مع أخيها، وهلا قال لها الأخ: قد صارت حصتك مستوفاة في ميراث الأخت للأب والأم، فلا حق لك أصلا بوجه من الوجوه، فلا جرم صار ابن مسعود إلى أن الباقي للأخ دون الأخت.وأبى ذلك غيره حتى قال زيد بن ثابت: هذا من قضاء أهل الجاهلية.أي إنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث.إلا أن ابن مسعود يقول: أنا أورث الإناث، ولكن نصيبهم مستوفى في ميراث أولاد الأب والأم، فهذا تمام هذا القول في الاعتراض.الوجه الثاني في الاعتراض، أن قول القائل إن ميراث أولاد الأب صار مستوفى لا وجه له، فإن حقهم لا يصير مستوفى لغيرهم، وكل من يحجب شخصا، لا يقال صار ميراثه مستوفى للحاجب، بل يقال:لا ميراث للمحجوب مع الحاجب، فإذا تقرر ذلك فالثلثان لأولاد الأب والأم وبنات الابن معهن، ويبقى النظر بعد ذلك في أنهم حجبوا بمن فوقهم، فلم يحرمون من دونهم مثل مسألتنا سواء؟الوجه الثالث: أنه لو جاز أن يقال هذا، جاز أن يقال: إن ميراث أولاد الأب شبيه بميراث أولاد الميت في الثلثين والنصف، وتعصيب الأخ للأخت، فيمكن أن يقال من أجل ذلك إنه ميراث الولادة، إلا أنه ولادة أب الميت، ولذلك تشابه الميراث، فإذا أخذت البنات الثلثين، صار حق الأولاد مستوفى على أبلغ الوجوه وهو ولادة الميت، وميراث أولاد أبي الميت من جنس ذلك بلا شك، فيصرف الفاضل إلى العصبة.الجواب عن السؤال الأول:أن الأخت إنما تأخذ مع أخيها بجهة أخرى غير الجهة التي يستحق بها الأخوات الفرض، كما تأخذ بنت الابن مع ابن الابن ما يبقى، وإن وجد بنتا الابن.فإن قلت: فلم يعصبها أخوها كما يعصب ابن الابن أخته؟ ولعل المعنى فيه أنها تقول نحن استوينا في القرب، وإنما لك فضل بالذكورة، فالمال بيننا على تلك النسبة، إذ يبعد أن يأخذه الأبعد في الدرجة بحكم البنوة، أو من في درجتها وهي لا تأخذ.أو يقال: إن قوة عصوبة الابن اقتضت فعصبت أخته، وقد بعدت تلك القوة إلى أولاد الأب وإن تقاصرت عنه في بعض الوجوه، فكان التعصيب لهذا المعنى، وإذا ثبت التعصيب اختلفت الجهة، فلم يكن توفية ميراث الأخوات بالفرض مانعا جهة أخرى يستحق بها الميراث، وهذا بيّن.والجواب عن الفصل الثاني، وهو قولهم إن ميراث أولاد الأب لا يصير مستوفى، فإنهم محجوبون، وإنما ذلك حق أولاد الأب والأم، فالأمر كذلك على بعض الوجوه، غير أن الذي قلنا إنه ليس لأولاد الأب الإناث أكثر من هذا القدر الصحيح، والذي قالوه ثالثا إنه ليس لأولاد الأب إلا ما يشبه ميراث الأولاد، فهو الكلام الواقع، وما ذكروه من تشابه الميراثين فكمثل، ولكن مع هذا إذا فرضنا بنتا وأختا، لم نقل إن الأخت تأخذ مكملة الثلثين، مثل ما يقال في الأخت من الأب مع الأخت من الأب والأم، وذلك يدل على وجه على افتراق الميراثين.واعلم أن هذا كله تعلل، والأصل فيه التوقيف، وهو ما روي هزيل ابن شرحبيل أن أبا موسى الأشعري سئل عن رجل ترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه. فقال: لبنته النصف، وما بقي فللأخت من الأب والأم. وقال: ائت ابن مسعود فسيقول مثل ما قلت، فسأل ابن مسعود عن ذلك وأخبره بما قال أبو موسى، فقال ابن مسعود: وكيف أقول ما قال أبو موسى وسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت من الأب والأم.وروى أبو حسان عن الأسود بن يزيد الكوفي، أن معاذ بن جبل وهو على اليمن ورث مال رجل توفي وترك ابنته وأخته، فجعل للابنة النصف ولأخته النصف، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حي يومئذ.وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال: كان ابن الزبير يقول في بنت وأخت: المال للبنت، فقلت له: إن معاذا قضى فينا باليمن للبنت النصف وللأخت النصف الباقي، فقال ابن الزبير، فأنت رسولي إلى ابن عتبة- وكان قاضيه على الكوفة- مره فليأخذ بذلك، فترك ابن الزبير قوله لما جاءه ما لم يمكن دفعه.اعلم أن اللّه تعالى قال في ميراث الإخوة: {وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ}، فجعل الأخ عصبة، ولم يفصل بين الأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، وجعل للأخت مطلقا النصف، وللأختين الثلثين، سواء كن من الأب أو من الأب والأم، ولم يفرد قرابة الأمومة، لا في حق الأخ ولا في حق الأخت، ولو انفردت قرابة الأمومة عن قرابة الأبوة، لكان للأخت من الأب والأم الثلثان: النصف بقرابة الأبوة، والسدس بقرابة الأمومة، وذلك كل المال، فإذا ثبت ذلك، علم به اتحاد القرابتين في حقه في استحقاق مقدار المال، ورجعت زيادة قرابة الأمومة إلى تأكيد قرابة الأبوة، حتى تقدم على ولد الأب، وتنزل زيادة قرابة الأمومة، منزلة زيادة درجة العصبات مثل الابن وابن الابن.فإذا تبين ذلك، فإذا فرضنا ابني عم، أحدهما أخ لأم، لم تتحد قرابة الأمومة ببنوة العم، بل لمن اجتمعت فيه القرابتان، السدس بقرابة الأمومة، والباقي بينه وبين ابن عمه، وقال عمر وابن مسعود: المال للأخ من الأم.ولم يختلفوا في الأخوين لأم، أحدهما ابن عم، أن لهما الثلث بنسب الأم، وما بقي فلابن العم خاصة.وفي المسألة الأولى شبهوا بأخوة الأم، وأنها تتحد بأخوة الأب.وهذا بعيد، فإن الجهة هناك واحدة، واختلفت الجهة فيما نحن فيه، والأصل نفي الاتحاد بين الجهتين وتوفير مقتضى كل علة عليها، إلا ما كان مستثنى في حق الإخوة، والنافي منفي على أصله.إذا ثبت الحكم في هذه المسائل فقد قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ}، قدم الوصية على الدين في ثلاثة مواضع.نعم أفاد بقوله: «أو» نفي اعتبار جمع الأمرين، فإنه لو قال:«من بعد وصية ودين» بالعطف، لا أحتمل أن يقال: يعتبر وجود الأمرين، وإذا قال: «أو دين»، علم به أن اجتماعهما لا يعتبر، ومثله قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، أي لا تطعهما ولا كل واحد منهما، ومثله قول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، هو أما بمجالستهما أو مجالسة أحدهما، فإذا قال: جالس الحسن وابن سيرين، احتمل أن يكون قد أمر بمجالستهما مجتمعين ومنفردين.يبقى أن يقال: إنه تعالى قدم الدين على الوصية.فيقال: إن المراد به استثناؤهما من جملة الميراث، وهما بالإضافة إلى التركة واحد، فإنهما مقدمان على حق الورثة، وليس يظهر أثر التقديم بالإضافة إلى الورثة، وإنما تتفاوت الوصية والدين في أنفسهما عند قطع النظر عن حق الورثة، وليس في الآية تعرض لذلك، وهذا بين، وكأنه تعالى ذكر الوصية قبل الدين، لأن الوصية أغلب وأكثر من الدين، فإنه قد يموت كثير ولا دين عليه، ولا يموت الإنسان غالبا إلا ويكون قد أوصى بوصية، ولأن قضاء الدين من التركة كان مشهورا، ولعل الحاجة إلى بيان الوصية كان أكثر وأظهر، وعن علي رضي اللّه عنه قال:قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرءونها من بعد وصية يوصى بها أو دين.واعلم أن قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ}، لا يقتضي اختصاص الوصية ببعض المال، كما لا يقتضي ذلك في الدين، إذ ظاهره العموم، إلا أن الخبر الصحيح ورد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه، قال: مرض أبي مرضا شديدا أشفى منه، فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا كلاله، أفأتصدق بالثلثين؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال: لا. قال: فالثلث؟قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون وجوه الناس، وإنك إن تنفق نفقة إلا أجرت فيها، حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك. فقلت: يا رسول اللّه، أتخلف عن هجرتي؟ قال: لن تخلف بعدي، فتعمل عملا تريد به وجه اللّه تعالى، إلا تزداد رفعة ودرجة، لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضرّ بك أقوام آخرون، ثم قال: اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن مات بمكة.فدل الخبر على أن الزيادة على الثلث غير جائزة، فإن النقصان عن الثلث مستحب.ودل به على أنه إذا كان قليل الحال وورثته فقراء، فالمستحب أن لا يوصي أصلا.وفيه دليل على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث، لأن سعدا قال: أتصدق بجميع مالي؟ فقال: لا، إلا أن يرده إلى الثلث.وقول سعد: أتخلف عن هجرتي؟.. معناه أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة، وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى المهاجرين عن أن يقيموا بعد النفر أكثر من الثلاث، وهاجر سعد مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم وتخلف بعده، حتى نفع اللّه به أقواما وضرّ به آخرين، وفتح اللّه على يديه بلاد العجم وأزال ملك الأكاسرة.وإذ قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ}، فيدل ظاهره على أن كل من كان عليه ما يسمى دينا، فلا يأخذ الوارث تركته.ومساق ذلك أن دين الزكاة يؤخذ من ماله بعد الموت، وكذلك الحج، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سماه دين اللّه وجعله أحق الديون.
|